إن معرفة الإنسان ويقينه في أنه على حق من أهم أسباب الثبات على هذا الدين .
وها نحن على موعدٍ مع صنفٍ كريم استشعر نعمة الاسلام وعاش ،بل وتعايش معها قلبًا وقالبًا فترك الدنيا بزخرفها الفاني وخرج مهاجرًا إلى الله ورسوله...
إنه عبد الله ذو البجادين رضي الله عنه
(( إسلامه ))
كان ذوالبجادين يتيمًا لا مال له .فلقد مات أبوه ولم يورثه شيئًا، وكفله عمه حتى أيسر، فلما قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة جعلت نفسه تتوق إلى الإسلام ، ولايقدر عليه من عمه حتى مضت السنون والمشاهد.
فقال لعمه: ياعم ،إني قد انتظرت إسلامك فلا أراك تريد محمدًا ،فائذن لي في الإسلام , فقال: والله لئن اتبعت محمدًا لا أترك بيدك شيئًا كنت أعطيتكه إلا نزعته منك حتى ثَوْبَيْك .
قال :فأنا والله متبع محمدًا وتارك عبادة الحجر وهذا ما بيدي فخذه , فأخذ مابيديه حتى جرَّده من أزاره .
فأتى أمَّه فقطعت بجادًا لها (البجاد:الكساء الغليظ الجافي) باثنين ،فائتزر بواحد وارتدى بالآخر ،ثم أقبل إلي المدينة , فاضطجع في المسجد في السَّحر ,
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يتصفح الناس إذا انصرف من الصبح ,
فنظر إليه فقال : ((من انت ؟)) فانتسب له وكان اسمه عبد العزّى
فقال : ((أنت عبدالله ذو البجادين )). ثم قال انزل قريبًا مني . فكان في أضيافه حتى قرأ قرآنا كثيرًا
وظل ملازما للنبي صلى الله عليه وسلم ملازمة العين لأختها ليقبس من هديه وعلمه وأخلاقه العذبة
(( كلا أنه أواب ))
وهاهو وسام من أوسمة الشرف التي وضعها الحبيب صلى الله عليه وسلم على صدر ذي البجادين - رضي الله عنه - فقد شهد له النبي صلى الله عليه وسلم أنه أواب.
عن الأدرع قال: كنت أحرس النبي صلى الله عليه وسلم فخرج ذات ليله لبعض حاجته قال: فرآني فأخذ بيدي , فانطلقنا فمررنا على رجل يصلي يجهر بالقرآن , فقال النبي صلى الله عليه وسلم : عسى أن يكون مرائيًا
قال :قلت : يارسول الله يصلي يجهر بالقرآن قال : فرفض يدي ثم قال: إنكم لن تنالوا هذا الأمر بالمغالبة
ثم خرج ذات ليلة وأنا احرسه لبعض حاجته فأخذ بيدي فمررنا على رجل يصلي يجهر بالقرآن فقلت عسى أن يكون مرائيا .. فقال النبي صلى الله عليه وسلم : كلا أنه أواب
قال : فنظرت فإذا هو عبد الله ذو البجادين.
(( ياليتني كنت صاحب الحفرة ))
كان ذو البجادين قد خرج مجاهدًا في غزوة تبوك فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ادع لي بالشهادة .
فربط النبي صلى الله عليه وسلم على عضده وقال: اللهم إني احرِّم دمه على الكفار. فقال: ليس هذا أردت. قال النبي صلى الله عليه وسلم : إنك إذا خرجت غازيًا فأخذتك الحمى فقتلتك فأنت شهيد , أو وقصتك دابتك فأنت شهيد.
فأقاموا بتبوك أيامًا ثم توفى .
يقول ابن مسعود رضي الله عنه وهو يقص علينا هذا المشهد المهيب الذي جعله يتمنى ان يكون صاحب هذه الحفرة (القبر).
قال ابن مسعود : قمت من جوف الليل وأنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في غزوة تبوك , قال : فرأيت شعلة من نار في ناحية العسكر ، قال: فاتبعتها أنظر اليها
فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر وعمر ،وإذا عبد الله ذو البجادين المزنيّ قد مات , وإذا هم قد حفروا له ، ورسول الله صلى الله عليه وسلم في حفرته وأبو بكر وعمر يُدليانه إليه وهو يقول : (( أدنيا إليَّ أخاكما )) , فدلياه إليه , فلما هيأه لشقه قال: (( اللهم إني قد أمسيت راضيًا عنه فارضَ عنه)) .
قال: يقول ابن مسعود : رضي الله عنه : ياليتني كنت صاحب الحفرة....
ويالها من صفحة جليلة في حياة هذا الصحابي الجليل الذي خرج من دنياه ابتغاء وجه الله تعالي ؛لأنه يعلم أن الدنيا لا تساوي عند الله جناج بعوضة،وأنها متاع زائل ،وأن السعادة فيها لا تدوم بحالٍ من الاحوال
فترك ثروة عمه ليفوز بأعظم ثروة وليظفر بأعظم نعمة في الكون كله - الا وهي نعمة الإسلام .
رضي الله عن عبد الله وعن الصحابة أجمعين